تنفجر الثورات حيث لا يشتهي المنظرون. هكذا بنى كارل ماركس نظريته الشيوعية (التحررية) وألمانيا الصناعية (المتقدمة) نصب عينيه، فانتفضت روسيا الفلاحية (المتخلفة) وقامت جنة العمال الاستبدادية. وعلى نفس المنوال رأينا شعب كوبا راقص السالسا ومدخن السيجار يتحول إلى مصدر للاشتراكية، وأصبحت الجزيرة الصغيرة مسمار جحا الأحمر في قلب أمريكا الرأسمالية. هكذا إذاً فاجأتنا تونس الخضراء، بلد الفرح الدائم، وطن الأمن والأمان: شعبها أراد إسقاط النظام! ولشدة سلمية الشعب التونسي وهدوء أمواج تاريخه لم يتمكن المستشرقون الأوربيون من التغلب على كليشيهات العهود السابقة، فعرف حراك تونس الشعبي (17 ديسمبر 2010 - 14 جانفي 2011) بثورة الياسمين، اسم رقيق كصوت ماجدة الرومي، ومن ثم تحول إلى نسيم من نسائم الربيع العربي.
النكسة
لكن سرعان ما تلبدت الغيوم، فعندما "اكتشف" العالم أن الشعب التونسي كغيره من الشعوب العربية تستميله شعبوية الإسلام السياسي، وأن زوارق الهجرة غير الشرعية سببها الاقتصاد لا السياسة، وأن عددها سيتضاعف مع سقوط الدولة البوليسية، تغيرت اللغة. أصبحت الصحافة تحذر من الخريف الإسلامي، والمشكلة العربية، وتستعد للإرهاب القادم من الجنوب. ولم تكن النخبة التونسية ببعيدة عن هذا التحليل، ولا حتى المواطن البسيط. كانت الثورة جذابة في أوائل 2011، لكنها اليوم شبه منبوذة في مسقط رأسها. كاد المدون أن يكون رئيساً بعد هروب الرئيس، وهاهو اليوم يبحث عن هوية أخرى لإبعاد "تهمة" التدوين عنه. أصبحت جموع المقاهي تتساءل إن كانت الثورة ثورةً، أم مؤامرةً خارجية. نجد في تونس المفاجآت حقيقةً مرةً وثابتةً: كثيرون اشتاقوا لحكم بن علي. أي نعم، برشة برشة.
الإحباط الشعبي
لو سألنا عن سبب الإحباط لأتى الجواب على طبق: الاقتصاد الذي انهار، والأمن الذي تدهور. فتونس كانت تلميذ المؤسسات الدولية المدلل، والأولى إفريقياً وعربياً في عديد المجالات، فيما كان بوليس الرئيس يحرسها من الخطر الخارجي والداخلي ويحرس المواطن من أخيه. أما اليوم فتضخم مستمر، وغلاء في أسعار المعيشة، وتقهقر بين وكالات التصنيف العالمية (موديز، فيتش وستندارد أند بورز التي لم يسمع بها التونسي أصلاً قبل الثورة)، إضافةً إلى إرهاب بدائي (مقارنةً بما شهدته الجزائر أو تشهده ليبيا) وجريمة منظمة وسرقة طالت المنازل والشوارع، وهي حوادث قل تناقلها في إعلام ما قبل 14 جانفي، رغم تغلغل جذورها في عهد بن علي. ولا شك في أن الثورة التي زعزعت أركان النظام القديم كانت سبباً مباشراً في استفحال هذه المشاكل، لكن يقتسم المسؤولية أيضاً جمع المسؤولين والموظفين والأمنيين الذين خدموا النظام القديم ورفضوا "الأسياد" الجدد، فكان مردودهم منقوصاً، بل وكثرت طلباتهم وارتفع سقف حقوقهم، ما أخل بالاقتصاد وأضعف أمن الدولة.
الإعلام
ولا يجب التغافل عن دور الإعلام الذي ضخم مشاكل تونس وركز عليها فأضحت الثورة مجرد لعنة لم تجلب خيراً. فأغلب مالكي الصحف التي مجدت بن علي وشوهت معارضيه لا يزالون يتربعون على عروشهم، أما قنوات التلفزيون والإذاعات الخاصة فتمويلها مجهول المصدر، فيما لم يلق صحافيو النظام السابق بأقلامهم كما انتظر الحالمون، بل "قلبو الفيستة" وأصبحوا ثوريين مع أوائل الثورة، ثم مشككين بها مع تقدم الوقت. ومع صعود الإسلاميين، تحالف أبواق بن علي مع جزء من معارضيه التاريخيين، وضربوا في معارضتهم للمشروع الإسلامي كذلك روح الثورة وأنسوا المواطن ما عاناه أيام الدكتاتورية ليوجهوا حملاتهم ضد الحكومة المنتخبة. تقدم رجال بن علي في ثورتهم المضادة، وساندهم ثوار الأمس، عن قصد أو عن غير قصد.
شبه علمانيين
يتشدق معارضو الإسلاميين بكونهم علمانيين، ولكن هذا ليس سوى تقليد سطحي للعلمانية الغربية. فأغلب علمانيو تونس مؤمنون بالله ورسوله وحتى أوليائه، والدولة المدنية عندهم تقنن الدين وتعتني به، وحتى أسماء ابنائهم من محمد وعبد العزيز وزينب وغيرها لا زالت تذكر بالانتماء الديني. هذا وينعتهم أعداؤهم بالبورجوازية والأرستقراطية، أو حثالة الفرنكوفونية، في حين أن جلهم أحفاد فلاحين وحرفيين صغار نجحوا في صفوف المدرسة الجمهورية أو غادروا نحو أوروبا فعادوا متبججين بريش الغرب أكثر من جوهره. وفي هذه الفئة من يدعي الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن مبادئه تختل عندما يتصل الأمر بالإسلاميين، ما يفسر سكوتهم عن انتهاكات بن علي ضد أتباع الإسلام السياسي والاجتماعي، واحتواءهم من قبل جحافل الثورة المضادة اليوم. ولو أردنا التبسيط لجمعنا شبه العلمانيين في "جبهة الإنقاذ"، حيث يجلس أمين عام حزب بن علي المنحل على مائدة أبرز قيادات اليسار والنقابيين، تحت خيمة الثوريين الناريين، وعشاق ستالين، وحتى الأسد وصدام حسين.
الإسلاميون
أما إسلاميو النهضة، وحلفاؤهما شبه العلمانيين (المؤتمر والتكتل) في ما يعرف بالترويكا، فقد أضافوا إلى هذه الصعوبات قلة خبرتهم وغرورهم المتسرع. وهكذا لاحظ أبناء بعض المناطق كيف تحول المحسوبون على الترويكا إلى وجهاء وأثرياء، وهذه مشكلة "التعيينات" التي تطالب المعارضة اليوم بمراجعتها. كما وقفت "لجان حماية الثورة" (وهي مجموعات ضمت الثوري والإسلامي وقاطع الطريق والأستاذ ومتعاطي حبوب الهلوسة ومن لف لفهم) في وجه الاجتماعات المناهضة للترويكا، مستعملةً الترهيب وأحياناً العنف. ثم تخاذلت الحكومة عن السلفية (التي تحولت لاحقاً إلى جهادية)، بل وشجعت النهضة نشأتها، وربما اندرج هذا في إطار تخويف معارضة الداخل وكذلك البلدان الأجنبية، لتظهر النهضة كحزب عصافير تزقزق أمام زمجرة السلفيين، فكانت النتيجة أن انقلب السحر على الساحر. اكتشفت النهضة، بعد فوات الأوان، أنها خلقت فرانكنشتاين. فهوجمت سفارة أمريكا، والمدرسة الأمريكية، واغتيل زعيم حزب ونائب في المجلس التأسيسي وجنود ورجال أمن، ووجدت الحكومة نفسها عاجزةً عن الردع.
الهوية
كما ولدت الثورة رجعيةً مرتبطةً بالهوية، حيث أصبح بعض دعاة الوهابية وغيرهم من واعظي الإسلام التلفزيوني يأتون إلى تونس بانتظام في زيارات فولكلورية كان بن علي قد منعها، وباتوا يتكلمون عن هوية غابرة يحاولون إحياءها وعن إصلاح المجتمع، لا بالبناء والتقدم بل بالهدم والتراجع. فتارةً نسمع بامرأة صينية تعتنق الإسلام، وأخرى بفتيات في سن الخامسة يلبسن النقاب، وهكذا دواليك. وخدش هذا التصرف شعور شق شبه العلمانيين، فاسترجعوا تخلف الأجداد وأضحوا يقدمون القرابين للأولياء الصالحين ويستشهدون بهم في كل مقام، وهي طقوس حاول الحبيب بورقيبة، مرجعية هؤلاء، القضاء عليها. ولم يفت كلا الطرفين محاولة تدجين جامع الزيتونة ورد الاعتبار إلى تعليمه، فتسمع أتباع القطيعين يتحدثون عن جامع الزيتونة كما لو كان أكسفورد أو هرفارد، منارة العصر والزمان. وآخر بدع الهوية ما قيل إنها شعرة الرسول محمد (ص)، أتى بها شيخ لبناني يلبس الأخضر فوق جمل، فاستقبله المئات يهللون.
سلبيات نسبية، وتقدم ثابت
لكن المهم أن كل هذه السلبيات نسبية. فتونس اليوم حرة كما لم تكن يوماً في تاريخها، وشعبها الذي كان رعية كل مستعمر ومستبد أصبح أخيراً سيد نفسه. ومن يتظاهر بحثاً عن عمل هو في الحقيقة يبحث عن شغل أفضل يليق بشهادته ومعرفته، أما من يصرخ بأنه يموت جوعاً فله عادةً ما يكفي لشراء علبة سجائر وكوب قهوة أو شاي. وحتى من العنف والإرهاب، لو قارناه بما يحدث في البلدان المجاورة، لوجدناه محدوداً. كما بزغ في تونس مجتمع مدني قوي يحرك الشارع ويؤثر على السياسة، وجيل جديد من الصحفيين أثبتوا جرأةً غير معهودة، بالإضافة إلى نساء فاعلات يحسب لهن ألف حساب وهو أمر نادر في عالمنا العربي. وشهدت تونس، إن صدق حكامها الجدد، محاولتين انقلابيتين في 2012 و 2013، غير أن المقاصل لم تنصب ولا المشانق، بل بالعكس كوفئ الانقلابيون بطوق من الياسمين، على ألا يعيدوا الكرة. ربما يلعن نصف هؤلاء الثورة اليوم، لكن مجرد حديثهم عنها وسب قياداتهم علانية إنما هو منة هذه الثورة، وتونس التي يكونون أضحت قاطرة الحرية في العالم العربي. وأرقى دليل هو استقالة النهضة مؤخراً تحت ضغط الشارع والمجتمع المدني، وتسلم رئيس وزراء مستقل الحكم، في حين نرى مومياء مبارك تقوم وتمشي وتقتل في مصر. إنها لثورة حتى النصر، برشة برشة.